تجاوزتني اليوم فتاة وسارت أمامي، ولم يكن سيرها مُنتظماً، تذهب يميناً، ويساراً، ثمّ يميناً ويساراً، فتركت الطريق وذهبت لطريق أخرى، فوجدت امرأتين أمامي، تسيران يميناً ويساراً!
لا تمشي النّساء باستقامة في الطريق، ينظرن في كلّ اتّجاه، ويتمايلن كثيراً... فضحكتُ وقلت في نفسي:
لو كان الذي يسير أمامي رجلاً، لأنزل رأسه ناحية الأرض، ومشى باستقامة، وقد يرتطم بعمود في منتصف الطريق، فيمسح رأسه بيده، ويُكمل طريقه...
مساكين هم الرّجال، العرق يتصبّب من تحت آباطهم، وينحدر كحبّات لؤلؤ من جباههم، لتأمين لقمة العيش لزوجه وأبنائه، ويا ليتهم يرضون عنه... يدخل بيته ضاحكاً ولا يعلمون شيئاً عن البهادل التي تبهدلها خارج المنزل ليوفّر لهم الأكياس التي يحملها بيده...
كلّ شيء بيد المرأة، وزارة الداخليّة، والماليّة، والاقتصاد، والزراعة، والتمويل، وليس للرجل شيء من هذه الوزارات غير الخارجيّة، وفي بعض الأحيان حتّى حقيبة الخارجية تسحب منه!
كلّما دعاني أحد أصحابي لعرسه، أتساءل: ما الداعي لزيادة الهموم، والتكاليف، والضغوط النفسيّة؟
أين عقل صاحبي؟!
ثمّ أقول: هذه سنّة الله تعالى في خلقه وفطرة فطروا عليها.
وبعد أن يُنجب الأبناء، ويربّيهم على عينه، يتزوّجون، وينسون عائلاتهم التي شبّوا بها، ويتركون والدهم لوحده في المنزل إذا كان أرمل، وقد يزوره بعض أبنائه خمس دقائق بعد صلاة الجمعة، يُقلّب هاتفه أمامه ثمّ يعود سريعاً لزوجه وعياله...
ولربّما تضايقوا من كثرة أمراضه، وشكواه الوحدة والعزلة...
كان عندنا في المسجد عجوز ثري، وله عيال كثر، فانتشرت في المسجد إشاعة تقول: إنّ العجوز تزوّج من فتاة صغيرة، ولاموه على ذلك، أمّا أنا فقد ترفّعت عنهم، فما لنا وللرّجل؟!
وبعد مدّة من الوقت، كنت أسير أمام منزله، فدعاني لأشرب عنده فنجانا من القهوة، فدخلت علينا زوجه الجديدة، وبدت لي وكأنّها في الثلاثين، وجدتها مؤدّبة شديدة الخجل...
فالتفت إليّ الرّجل وقال: عاداني أبنائي جميعاً بعد زواجي، وتحدّث عنّي النّاس في المسجد، والجيران، وأقاربي، وقالوا: كيف تزوّج وهو ابن السبعين؟!
فتغيّرت ملامح وجهه، وقال لي بغضب: والله، جالس في منزلي مثل القرد، لا يزورني أحد، ولا يوجد من يُسليني، ولا من يُناولني الدواء... ولا من يغسل لي ملابسي، فاخترت امرأة بنت حلال، وبالتّراضي، أهناك خطأ ارتكبته؟!
قلت له: ما دام الشرع معك، فلا تلتفت للدنيا بأسرها، وليس لأقاربك فقط!
فقال لي: ماذا لو لم أكن ثريّاً؟
كيف سيكون حالي؟!
فضحك ثمّ قال: أكيد سأرى ألواناً من الذل في منازل أبنائي، وعند زوجاتهم!
ثمّ قال: ليس لي عليهنّ أيّ حق، ولا يتوجّب عليهنّ خدمتي، وأنا أقدّر ذلك، لكنّ الإنسان إذا كبرت سنّه، وضعفت قوّته، لم يعد يرغب فيه أحد، وتثاقل النّاس عن القيام ببعض حقوقه!
ولأجل ذلك أقول: احتفظ بالمال، ولا تقسمه على حياة عينك، هذا لكي تعيش بقيّة عمرك مُعزّزا مُكرّما... وإذا كنت قادرا جنسيّا، ولو بأقل القدرة، فتزوّج، ولا تعش وحيداً.
المال وسيلة تحفظ به كرامتك، وتصون به عرضك.
قال تعالى: " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا"