كيف أقرأ ..؟؟ كيف أصير موسوعيا في العلوم ..؟؟

 


كيف يقرأ هؤلاء الموسوعيّون ...؟؟ كيف أصير عالما كبيرا ..؟؟ تراني أفتح الكتاب وأملّ منه سريعا ...؟؟!! هل هناك من حلّ لهذه المشكلة..؟؟

الجواب :

عندما كنت صغيرا مرضت بشدّة ... حتّى لم يبق بيني وبين الموت غير شعرة واحدة ... وأخذت علاجات كثيرة وكانت كلّها أدوية سائلة مرّة جدّا... كأنّها العلقم... فلمّا رأيتُ الطبيب أخبرته بأنّ الموت أهون عليّ من شرب هذه الكمّية الكبيرة من الأدوية المرّة أربع مرّات يوميا ...!! 

فغيّر الطبيب وصفة الدواء السائل المرّ إلى حبوب وكبسولات ... مع أنّ الدواء الصلب مضرّ بأمعاء الأطفال إلاّ أنّ الطبيب اعتبرها حالة ضروريّة ... ولمّا رجعتُ إلى البيت وحان موعد أخذ الدواء ..ففتحت أوّل كبسولة ووضعتها في فمي ولم أعرف كيف أبلعها ... ؟؟ وشربت الماء بكمّية كبيرة محاولا إنزالها من حلقي .. إلاّ أنها بقيت ملتصقة بحلقي كأنّها قد غرست غرسا في الملهاة ...!!

وهكذا ... كلّما أردتُ أن آخذ الأقراص أتعذّب جدّا.. بل في بعض المرّات كدتُ أختنق وأموت ... ولمّا رأيتُ الطبيب سألته عن الطريقة المثالية لبلع الدواء ...؟؟!!

فتعجّب الطبيب وقال : سبحان الله ... كيف ستبلع الدواء ..؟؟ ضع الحبّة في فمك .. ثمّ ألحقها بالماء ... فاستحييت أن أعيد سؤاله ... ورجعتُ إلى شرب الدواء السّائل المرّ ... فهو على الأقلّ لا يلتصق بحلقي ولا يقتلني خنقا كالأقراص ...!!

وهذا أمر طبيعي ... فالأقراص غير مخصّصة لفم الأطفال ... فالسائل المحرّك للطعام من الفم إلى المعدة قليل في الأطفال ... وغير كثيف ... كحال لعاب البالغين ...

وقبل مدّة سألني أحد أصحابي عن الطريقة المثالية لبلع الأقراص لأنّ ولده لا يقدر على بلعها ويكاد يموت اختناقا ...فقلت له : يجب أن يكون البلعوم كبيرا ورطبا باللعاب قبل بلع القرص وإلحاقه بالماء ولهذا يمنع الأطبّاء شرب الأقراص للأطفال لأنّه قد يختنق ويموت أثناء بلعه لها... لأنّ من شروط بلع الأدوية الجامدة أن لا يوضع القرص في الفم قبل وجود كميّة من اللعاب التي تجعل الحبّة رطبة سهلة النزول إلى المعدة دون أن تلتصق بالبلعوم أو تسبب لولدك الاختناق أو الموت لا سمح الله...

فلا يصحّ أن يُعطى ما للكبار إلى فم الصغار... فهذا عبث ولعب ... فمن يقرأ كتاب أصول الرياضيات لرسّل مثلا ولم يصل إلى درجة التحقيق في المنطق والرياضيات فلن يخرج منه بشيء غير التعب وانكسار الخاطر ... حتّى يترك القراءة بالمرّة قائلا : أنا حمار .. وغبي ..ولم يعلم الحزين أنّ طريقته في القراءة خاطئة   ... 

وقد وقع كثير من العلماء في هذا الخطأ فبدؤوا قراءاتهم بالكتب الضخمة والصعبة .. فلمّا عجزوا تركوا القراءة بالكلّية ... كحال ابن سينا مع كتب أرسطو ... وكحال المراغي مع كتاب سيبويه وكحال رسّل مع كتب بيانو وهكذا ...

يقول رسّل : ولم أكن أعرف سرّ الرياضيات وعلاقته بالمنطق ... وهناك كثير من الأمور الصعبة التي لم أفهمها ... حتّى التقيت صدفة ببيانو ودرست عنده أقل من شهرين ...ففهمت كلّ ما صعب عليّ ... وصارت أسرار الرياضيات بين يدي ... فأعترف بفضل بيانو عليّ ...

فيجب أن يقرأ الطالب بحسب مستواه ...فلا يقفز مباشرة إلى الكتب الصعبة والمعقّدة ... لأنّ الله تعالى خلق الكون من السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى المعقّد ... وهذه من أهمّ مبادئ منطق ديكارت الجديد ... وهو ابدأ من السهل إلى الصعب ... لأنّ عقلنا لا يفهم الفكرة بالعكس أي بالمقلوب .. كما يفعل كثيرون ..

وفي الحقيقة .. هناك بعض القضايا الفكريّة لن تفهمها إلاّ بالمقلوب ... فلو قرأتّها كما يقول علماء الكلام والفلسفة وكما يحكي ديكارت فلن تفهم منها شيئا ... 

مثلا ... لو قعدت طول عمرك تقرأ في فلسفة الصدر القونوي أو ابن عربي أو الشيرازي فلن تفهم منها شيئا ولو مكثت كعمر نوح ... لأنّ هذه الفلسفات مقلوبة أصلا ... وهذا سرّ علمي ... جميع الفلسفات المثالية الذاتية والموضوعية ابدأ بها بالمقلوب ...

فابدأ من النتيجة وافهمها ثمّ ارجع قليلا قليلا وشيئا شيئا إلى الوراء ... كأنّك تركب سيّارة في زقاق ضيّق وتريد الخروج منه ولا منفذ له غير المنفذ الذي يقع خلفك .. فترجع شيئا شيئا حتّى تخرج منه ..

فلو قعدت تقرأ لابن عربي مثلا فكرة وحدة الوجود من باب الكتاب ... وصرت تقرأ له أنّ لله ظلالا وأنّه يتجلّى في المجالى ... وأنّه لا موجود إلاّ لله مع عدم إنكار ثبوت المخلوقات أصلا أو وجودها ... ولا يبين لك معنى المجالى أصلا ولا معنى ظاهر أو ظل أو ماذا يقصد بالنسب العدمية وهكذا ... 

لكن لو ولجت الكتاب من بابه الخلفي فسيسهل عليك فهم ما يحكيه الرجل ... لأنّه سيضع بين يديك النتائج ... ومن خلالها ستفهم المقصود بتلك الكلمات الغريبة ثمّ تبدأ بالرجوع إلى أن تنتهي إلى أوّل الكتاب ... وصدّقوني بهذا ...  

وكلّما قرأتُ كتابا لا يبين صاحبه عن حقيقة وحدة الوجود وإنّما يتفلسف بكلمات لا يعرف معانيها أصلا وينقلها جاهزة من ابن عربي أو الشيرازي أضحك وأقول : مسكين لم ينظر إلى قفا هذه الفلسفة وبقي واقفا في جهة وجهها ...!! لأنّها ببساطة فلسفة مقلوبة ... 

فهل سمعتم عن طبخة المقلوبة ... فهذه الأكلة لا يمكن أن تفهم سرّها من غير قلبها ... لأنّ اللحوم والدجاج وبيض الجان أو الباذنجان والبطاطا والزهرة والجزر مخبأة في آخرها ... ولن تتمكن من فهمها أو تذوّقها ما لم تقلبها ليصحّ الأمر على حقيقته ... وهكذا بعض الفلسفات كحال المقلوبة تماما ...!!

إذن .. قد يكون عدم فهمك للكتب بسبب أنّك قد أخطأت في فهم مستوى هذه الكتب ... أو أنّك لن تعرف كيف تقرأ الفلسفة التي تريد فهمها وتعتقد أنك لو بدأت بها واحدة واحدة فستفهمها... ولن يزيدك هذا الأسلوب شيئا لأنّها أصلا فلسفات معكوسة ... وتحتاج إلى فهم نتائجها قبل أن تعرف قواعدها...

ومن أهمّ مبادئ الفهم والاستمرار هو الخروج من البيت ... والترويح عن النفس ... وإلاّ فأنت مريض نفسي يا حبيبي وتحتاج إلى علاج ... فكثرة القراءة التي يصاحبها عزلة حقيقية عن العالم الواقعي من حولك مرض نفسي  ...

فانظر مثلا إلى عقل في غاية الذكاء كعقل هوايتهد ... أراد فهم سرّ المنطق الرياضي وحل مشكلات الما لانهاية والنقائض الرياضية وغيرها.. حتّى فقد عقله وجنّ في آخر عمره ... تقول زوجة ألفرد نورث هوايتهد كما روى رسّل في كتابه سيرتي الذاتية الجزء الأوّل : أخبرتني زوجة هوايتهد أنّ زوجها لا يخرج من البيت أبدا ... ولا يلتقي بأحد ... ولا تشعر بوجوده في هذه الحياة ... فلا ينشط لشيء غير القراءة والتأليف ... وذكرت أنّه يكلّم نفسه ويصيح ليلا ... وإنّي أخشى عليه من الجنون ...!!

فيقول رسّل : وقد خشيت عليه أنا أيضا من الجنون ... ... ثمّ يتفكّر في نفسه ويقول :

 وكأنّ زوجة هوايتهد تصف حالي أيضا ... فلا أختلف بشيء عن هوايتهد أبدا ... فأنا لا أخرج من البيت أيضا ... وليس لي أصدقاء أو معارف ... فهل حقا نحن مجانين ...؟؟ ربّما ... فعلى الأقل أرى أنّ صديقي هوايتهد يقرب من المجانين ... وأعتقد أنّ عزلته إن طالت فسنضطر إلى إدخاله إلى مشفى المجانين ...!!

ثمّ يقول : وهذا كلّه بفعل القراءة الكثيرة والمتتالية... فلم نخلق لهذا ... إنّما خلقنا لنأكل ونشرب ونسافر ونمرح وننام ونشبع من متع الحياة... لكنّي للأسف لا أقدر على شيء من هذا ... 

وبعد سنتين كتب رسلّ كتابه - دعوة إلى الكسل - وهو يدعو الناس إلى التكاسل عن العمل لأجل صحّتهم النفسيّة والبدنيّة وذكر أنّ أغلب الناس لا يشعرون بأعمارهم المهدرة في العمل أو القراءة ...

وقد نجد بعض العلماء يُحب الخروج من البيت ومخالطة الناس .. ولكن ظروف القراءة والموسوعية تجبره على المكوث في البيت ووضع نظام صارم للقراءة ...كحال عبّاس العقاد إذ يقول في كتابه أنا : أستيقظ عند صلاة الفجر ... فأقرأ حتّى الساعة العاشرة ... ثمّ أفطر ... ثمّ أقرأ ... إلى الغداء ... ثمّ أنام ساعة ثمّ أقرأ ... ثمّ أخرج ساعة أمشي في شوارع القاهرة ثمّ أرجع وأقرأ ... ثمّ أتعشّى ... وأسمع الموسيقى لمدّة ساعة ثمّ أنام ... 

فهذه حياة الرجل الموسوعي ببساطة... ولم يقطعها إلى أن مات ... فقد ذكر ابن أخيه في معارك العقاد أنّ وفدا هنديا جاء لتوقيع عقد مع عمه لنشر كتبه في تلك البلاد وسيدفعون له بداية أكثر من10000 جنيه كدفعة أولى ... وتأخّروا عن موعدهم ربع ساعة بسبب ضياعهم في شوارع القاهرة ... فرفض العقاد استقبالهم وقال :

الله يلعن أبو الجنيه الذي يجعل العقاد يُخلّ بموعد نومه ربع ساعة ...!! وهذا عجيب حقا ... وذكر هذه الحادثة أنيس منصور في كتابه عظماء ...

ويخبرنا العقّاد عن طريقة قراءته في كتابه أنا ومختصرها :

أقرأ بسرعة ... فإذا رأيتُ معلومة غريبة أو نكتة لطيفة أو شيئا جديدا علي ... أكتبها في ورقة وأذكر اسم الكتاب والصفحة وأضعها في بابها .. مثل باب الأدب أو باب الفلسفة أو المنطق وهكذا ... فإذا أردتُ أن أكتب شيئا فتحت تلك الورقات وبحثت عن باب الأدب مثلا وأقرأ تلك النكت وأتذكّر الكتاب عموما ...

ثم يقول : ويجب على طالب العلم أن يعيد قراءة الكتاب كلّ سنتين مرّة على الأقل ... ولو لم يفعل هذا فكأنّه ما قرأ شيئا ... وسيضيع تعبه سدى ... وهذا سرّ نسيان ما قرأه طيلة سنوات عمره وقد تكون بالآلاف ...

يخبرنا العريان بطريقة قراءة الرافعي رحمه الله ومختصر ما ذكره :

أنّ الرافعي كان مشغولا بالفقر عن القراءة ... وهذا حال أدباء وعلماء مصر للأسف ... وكان يسهر ليلا للقراءة ... فإذا أراد أن يكتب ردّا أو عملا أدبيا ... يقرأ أوّلا في موضوع الردّ من أصوله .. يعني يقرأ في الكتب القديمة في عين الموضوع ككتب الجاحظ مثلا ... ثمّ يترك الكتاب وقد شبع عقله وقلبه بطريقة الكتاب فيكتب ردّه مباشرة ... فيقع أسلوب كتابته على مشاكلة الكتاب الأصل ... وهكذا ...

يخبرنا طوقان عن سرّ شعره وشعر أخته ... ومختصر كلامه :

لم تكن أختي تعرف شيئا في الشعر ... ولا تعرف نظمه أصلا ... فعلّمتها أن تكتب قصّة قصيرة لما يجول في خاطرها من مشاعر ... ثمّ تكتب نثرا ما كتبته من معاني القصّة ... ثمّ تكتب ذلك النثر نظما ... ثمّ .. تحاول أن تجيد في ذلك النظم حتّى تشعر أنّها قد استنفدت جميع قوّتها ...

ويقول : والعجيب أنّ شعرها صار أفخم وأجمل من شعر أستاذها يقصد نفسه ...!!

وهل يجب أن أجوع وأزهد في الدنيا حتّى يرزقني الله العلم كما نسمع دوما ...؟؟

يقول الإمام السبكي في رسالة بعثها من مكّة إلى دمشق يردّ فيها على ولده التاج يقول :

يا ولدي ... لولا أنّ والدي قد فرّغني للقراءة فهل سأقدر على قراءة كتاب واحد ...؟؟  فهمّ الطعام والشراب والدواء للعيال فضلا عن البيت والخادمة لا يجعلك تقدر على فتح كتاب أو تسويد ورقة ...

ويقول : فإنّي إذا أردتُ أن أقرأ ... نمتُ كثيرا حتّى يرتاح جسدي وعقلي ... ثمّ آكل ما قسمه الله لي إلى أن أشبع ... ثمّ أبدأ بالقراءة و الكتابة ... فهذا حال والدك يا بني ... واشكر الله لأنّي اعتنيت بك كما اعتنى بي والدي .... فلا أعرف كيف سأقرأ من دون خادمة تقوم بأمر البيت ...!!

يقول ماركس في رسالة بعثها إلى صديقه آنجل وهي موجودة في كتاب بروسيا الحمراء : لو قدرتُ على إخراج النقود من فم الشيطان لقاتلته عليها ... فأنا لا أجد شيئا أطعم به عيالي و زوجتي ...فماذا أفعل ...؟؟ لا أخرج من المكتبة من شروق الشمس إلى مغيبها ... فهل أترك مكتبتي لأجلب الطعام لأولادي ...؟؟ حاولت ذلك كثيرا لكنّي لا أدري لماذا نعذّب بالجوع والفقر ... !!

يا ليتني أجد من يكفيني أجرة البيت ... أو أجد من يطعم عيالي ... فانا متكدّر الخاطر دائما بسبب هذه الهموم ...!!

ويقول : وما علّمت أولادي غير جملة واحد ... أبي ليس في البيت ... من كثرة الدائنين ...!!

فالمال كما صرّح الإمام السبكي وهو شيخ الإسلام وماركس وهو كبير الملاحدة من شروط العلم ... ولا تسمع لمن يقول : يمكن للفقير أن يصير عالما ... أو مخترعا ... أو عبقريا ... فهذه طفرات لا يقاس عليها ... النجاح يحتاج إلى مال ...وإلاّ فبالله كيف ستجد وقتا للقراءة وأنت لا تجد طعاما لأولادك أو أجرة لبيتك ...!!

في مناظرة الباجي مع ابن حزم قال الباجي لابن حزم :

وأنت قد عشت في بيت مرفّه ... فأنّى تعرف العلم وحقائق الأمور ... ونحن من كابدنا الدنيا وصعوبة العيش حتّى حصّلنا ما لم يحصّل غيرنا من العلوم والدقائق ...

فردّ عليه ابن حزم :

هذه عليك لا لك ... فمن يجد المال والطعام والراحة أدعى للعلم والاطّلاع على حقائق العلوم ممّن لا يجد قوت يومه ... فنحن كنّا نقرأ حين كنت أنت تعمل لتسدّ جوعك ... وأيضا .. من يولد في بيت غني أبعد عن الرياء في علمه من العالم الفقير .. لأنّ العالم الغني مستغن بماله وجاهه عن التزلّف للحكّام أو لأولياء الأمور من الفقير ...

يقول  الإمام الغزالي : ويجب أن يكون للعالم ما يقيم له أمره من بيت ومال ونفقة وهذا أبعد في خضوعه للحكّام في فتاويه وعلمه ... 

ولهذا السبب لم يترك الغزالي جميع ماله عند هجرته الشهيرة من بغداد بل ترك بعض أسباب الحياة لكي لا يحتاج أحدا ...

يقول الإمام عبد الغافر الفارسي ... وقد زار أمير الخلافة شيخنا الغزالي في صومعته بطوس ... وعرض عليه المال والجاه ... فرفض شيخنا عرض الأمير وقال له :

لو اشتغلت بذكر الله أحسن من جلوسك عندي ...!!

ومن أحسن ما يضمن لك الاستمرار في طريق العلم هو مخالطة العلماء ...

يقول أنيس منصور : ولم أكن أعرف شيئا حين دخلت الجامعة ... فاتّفقت مع مجموعة من أصحابي لزيارة طه حسين ... فزرناه في مكتبه في الجامعة .. وصار يسألنا عن الأدب والتاريخ والدين والثقافة والشعر ... ولم نعرف جواب أيّ سؤال ... فقال :

هل تحسبون أنفسكم طلاّبا ...؟؟ أنتم حمير صغيرة ...!! اذهبوا واقرؤوا حتّى تصيروا علماء بحق ... فلا علم من غير قراءة .. ولا قراءة من غير فراغ ...!!

فيقول أنيس منصور : ولم يمسح بنا طه حسين الأرض فقط بل مسح بنا السماء أيضا ...!! ولم تمض سوى بضع سنوات حتّى صار كلّ من دخل معي إلى مكتب طه حسين من كبار الأدباء والعلماء ...

وقد عنون أنيس للقائه بطه حسين ( مسح بنا الأرض والسماء معا ) ...!! 

يقول السدحان تلميذ ابن باز رحمه الله تعالى :

وكان هناك شيخ دائم الجلوس في مجالس ابن باز التعليمية ... حتّى تعليم ابن باز لأولاده في المجالس الخاصة كان يحضرها ... فسأله ابن باز هل استفاد شيئا من هذه المجالس طيلة ثلاثين سنة ...؟؟

فأخبره العجوز :

أمّا العلم فلا ... فأنا إنسان لا يشغلني العلم ... فعقلي ضعيف .. لكنّي استفدت منك الأخلاق ... فانا أجلس في مجالسك لأتعلّم الأخلاق منك ... وقد تعلّمت والحمد لله ...

ومن الأمور اللطيفة التي تذكر عن ابن باز وقد ذكرها السدحان في كتابه أنّ أحد النصارى بعث لابن باز بمليون ريال ...؟؟!

وسأل ابن باز عن سبب هذه الهدية ...؟؟

فأخبره النصراني أنّه يُحب سماع دروس الشيخ المسجّلة ...ويشعر براحة عظيمة ... فأخذها ابن باز ووضعها في صندوق طلاّب العلم ..

ومن عجائب هذا الرجل أنّ أحد الأعراب طلب منه مساعدة مالية فأعطاه شيكا بألفي ريال فزوّره الأعرابي إلى عشرين ألف ريال ... ولمّا أمسكت به الشرطة ... أخرجه ابن باز من السجن وأعطاه عشرين ألفا ...!!

فسأله بعض المسؤولين عن هذا ..؟؟ فقال : مسكين ... لولا أنّه يحتاجها ما زوّر الشيك ...!!

المقصود : إذا لم تتعلّم من العالم شيئا استفدت من أخلاقه وشمائله ...وهذه فائدة عظيمة والله ...

ولكنّي أتساءل : أين هم هؤلاء في هذا الزمن ...!! ترى العالم فتعجبك أخلاقه ولمّا تخالطه تجده مريضا نفسيا يحتاج إلى علاج ...!!

ويجب عليك أن لا تقرأ إلاّ الكتب الواضحة ... فالكتب الغامضة تضيّع وقتك ... وتذهب عقلك ... ولا تسمع لمن يحكي : قراءة هذه الكتب تشحذ الذهن وتقويه ... نعم تشحذ الذهن بالتعب وتضييع الوقت والترّهات الفاضية ...

يقول ابن تيمية في كتاب الردّ على النسفي :

وهذا النسفي أورد كلامه بالألغاز ... ومعاني كلامه في غاية الغموض ... ولا أعرف سببا لهذا ... وقد أتعبنا في فهم كلامه ... وليس هذا من دأب العلماء ...وهذا الغموض من سوء صنيع بعضهم  ..

والعجيب .. أن ابن تيمية كان يصيغ كلام النسفي مرّة أخرى ثمّ يردّ عليه ... ويقول : هكذا كان يجب أن تكون العبارة ... لا كما حكاه هذا الرجل عمدا ليلغز بها ...!!

يقول جان جاك روسّو في الاعترافات : قرأتُ كتاب العلوم الطبيعية أكثر من 200 مرّة ... حتّى حفظته غيبا ... ولحدّ هذا اليوم لا أعوّل على شيء في معارفي كما أعوّل عليه ... فقد قرأتُ آلافا من الكتب لكنّي ما استفدت من كتاب كما أفدت من ذلك الكتاب ... فإنّه سهل جدّا .. ومليء بالرحمة للطلاّب أمثالي في ذلك الوقت ... وليس كتلك الكتب التي تقرأها ولا تفهم منها شيئا ... وتهدر وقتك الثمين لقراءة ترّهات مريض نفسي معقّد ...

ولا بأس بالحفظ ... وخصوصا بعض المتون المهمّة ... كمتون الفرائض والنحو والحديث وغيرها ...

يقول الصلاح الصفدي :

وكان الفخر الرازي من أحفظ أهل زمانه ... حتّى قيل في حفظه وقوّة ذاكرته عجبا .. ثمّ سرد محفوظات الرجل ..

ونجد هذا الأسلوب أي أسلوب الحفظ في الكلاسيكيات الأوربية ... فاسمع مثلا ما يقول شالييه :

وكنّا نحفظ عشرات القصائد باللاتينية وذلك لأمرين :

1- تقوية الذاكرة وتعويدها على حفظ المعلومات ..

2- إيراد الأدلة عند الحاجة إليها .... وكم ضربنا على حفظ هذه القصائد حتّى تورّمت أرجلنا ولم أعرف الجلوس على قفاي من كثرة الضرب في كثير من الأحيان ...

وفي مقولة جميلة لابن عثيمين : قرأتُ آلافا من الكتب ونسيتها كلّها ... ولا أفتي إلاّ من بعض المتون التي حفظتها وأنا صغير ...!! فقد قرأتُ كثيرا وحفظتُ قليلا فنسيت الكثير الذي قرأته وتمسّكت بالقليل الذي حفظته ...

ويقول روسّو في نزهة المتفرّد : وكان حفظ القصائد اللاتينية من أسباب تركي للعلم سنوات ... فما أثقل الحفظ ... لكنّي عرفت بعد هذا أنّ من لا يحفظ ما يقرأ فعمله هباء ...

وعليك أن تقرأ ما يبهج قلبك ولا تقرأ ما يضيق به صدرك ولا تطيقه روحك ونفسك ...

يقول مؤسّس علم النمذجة الفيلسوف اليهودي كافكا وهو أكبر قارئ ومطّّلع على الكتب في القرن العشرين :

لا ينبغي أن نجعل من القراءة همّا وتعبا ... كأنّك تنحت الصخر وأنت تقرأ ... فلماذا تقرأ كتابا يتعبك ...؟؟ إذا أردتَ أن تقرأ فاقرأ ما يسرّ فؤادّك .. ويجعلك مبتهجا طيلة مدّة قراءتك ... ومن يقرأ بغير هذه الطريقة فلن يفهم ما يقرأ... أو يستمرّ في فهمه وحفظه ... لأنّك ما لم تجعل القراءة من مصادر بهجتك وسرورك فلن تستقرّ في روعك ...

ما قيمة العالم ..؟؟

يقول شولتز مؤسّس السيمياء : هناك عوالم كثيرة ... عالم قد خبرته بنفسك ... وعالم خبره غيرك ... وهو ينقل إليك عالمه وخبرته بمؤلّف ... وكذلك آلاف التجارب والعوالم تنتقل إلى عالمك بمؤلّفات أصحابها فالقارئ ليس شخصا واحدا بل شخوص كثيرة .. وهو ليس عالما واحدا ... بل مجموعة كبيرة من العلماء والخبراء معا ...

يقول سيّد قطب في المذاهب الأدبية: والشعر تجربة حيّة ينقلها إليك الشاعر بشعره ونثره ... وكلّما أحسن تصوير ذلك الشعور والحياة التي شعر بها كلّما كان شعره أجود ... فالشعر يعتمد على إحساس الشاعر وعلى قدرته على نقل ذلك الشعور إلى غيره من الناس ... فأنت حين تقرأ قصيدة تضيف إلى خبراتك خبرة جديدة من غير أن تكون قد اختبرت هذه التجربة مهما كانت قاسية أو جميلة ...

فمن لا يقرأ لا يعيش غير حياة واحدة ... ولم تطأ أقدامه غير عالم واحد ... ولا يعيش غير عصره ... ولا يفترق عن حال الحيوان الذي يعيش يومه من غير أمسه ...أو أمسه من غير  يومه ...ولا تقرأ ما لم تفرح بالقراءة ... ولا تفرض القراءة على نفسك  ... 

تعليقات