برّ الوالدين


من المؤسف في هذا الزمن أن يربط الأبناء برهم بآبائهم بطريقة تعامل الوالدين معهم. فإذا تعامل الوالدان بقسوة أو ظلم، قد يرد الأبناء بالمثل، مما يؤدي إلى عقوق الوالدين، وهو ما حرمه الشرع. في النهاية، يظلم الابن نفسه بعقوقه لوالديه، ويدفع الثمن في الدنيا والآخرة، بالإضافة إلى قسوة والديه إن كانا قاسيين بالفعل.

عندما أمرنا الله ببر الوالدين، لم يشترط صلاحهما أو تقواهما أو رحمتهما بأبنائهما؛ بل إن البر واجب على الابن في كل الأحوال. والله العليم الحكيم يعلم بوجود آباء قساة وظالمين، ومع ذلك لم يستثنهم من البر. حتى في حالة الكفر بالله، لم يستثن الأب الكافر أو الأم الكافرة من البر، مع عدم طاعتهما فيما يغضب الله.

تأمل قول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}. تأمل كلمة {جاهداك} التي تحمل معنى المشقة والتعب والصدام، بل ربما القهر، وعلى ماذا؟ لتكفر بالله! ومع ذلك يقول الله: فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً. أي بر بعد ذلك؟ وأي أمر يستدعي العقوق دون ذلك؟ ومع ذلك أمرنا الله ببرهما حتى في هذه الحالة.

ومن العقوق ما يظهره الولد لأبويه من ملل وضجر وغضب، وقد أمر أن يقابلهما بالحسنى واللين والمودة والقول الكريم. يكفي في عظم جرم العقوق ما رواه أبي بكرة: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً". قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وجلس وكان متكئاً، فقال: "ألا وقول الزور". قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم. وقال عروة بن الزبير: (ما برَّ والده من أحدَّ النظر إليه). تخيل أن النظرة عقوق! وفي الأثر: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات). وعاق والديه قد تصيبه دعوتهما، فيشقى بها في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:23-24]. لم يجعل لهذا الإحسان والبر استثناء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء" رواه الحاكم في مستدركه عن عمر؛ لم يجعل لهذا العقوق استثناء.

فاتق الله في نفسك واحفظها من الهلاك في الدنيا والآخرة. اصبر على والديك وأحسن إليهما وامتنع عن قطيعتهما وعقوقهما، وأحسن صحبتهما، وتودد إليهما وارفق بهما، واحتسب الأمر عند الله ما قد يصيبك منهما، وادع لهما دائماً بالصلاح والهداية والمغفرة. وثق أن لا شيء يضيع عند الله مهما قل وصغر، وظن بربك خيراً أن يفتح عليك أبواب بركاته ورحماته في الدنيا والآخرة.

ولكل أم وأب، لا تكونوا عوناً للشيطان على أبنائكما، واعلموا أنكم ستسألون بين يدي الله عن حقوقهم، ستحاسبون على ظلمهم وقهرهم وألمهم، كونوا عوناً لهم على بركما فتلك هي فطرة الآباء؛ فلا تشوهوها.

تعليقات