القبلة من أشهر عادات بني آدم ، وإن كان العرب لا يقبّلون في الفم لغير الزوجة إلا نادرا ، وفي الغرب لا يعرفون من القبل غير قبلة الفم ، فإن ذكرت القبلة عندهم انقادت الكلمة لموضع الفم ،
وقد يكون بعض بني آدم ممّن يفيض عرقه من وجهه فيضا ، وخصوصا في هذه الأوقات الحارّّة من السنة ، فتراه يلثم وجهك لثما بل يحفره حفرا ، وقد أفاض عليك من ماء وجهه وسيالاته إلى جانب قبلاته السعيدة ، ولو شعر بعدم رغبتك بتلك القبلات الهنيّة لأوجس خيفة في نفسه ، ولعملت الوساوس عملها في قلبه ،
ومن العجيب أن نجد بعض الفقهاء يبيح تقبيل الأب لبناته ويكره تقبيل الأب لأبنائه كالإمام مالك رحمه الله؟؟!!
فهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل فاطمة ، وهذا أبو بكر يقبّل عائشة ، وما أثر عن أحد من السلف تقبيله للذكور من أولاده ، فوجب إجراء سنّة السلف في استحباب تقبيل البنات دون الأولاد ، وهذا يدلّ على رعاية حقوق المرأة في الإسلام ، وإن كانوا يقيّدون هذه القبل بالسفر ، وهذا نصّ مالك ، وحديث البخاري لم يكن في سفر ، بل في حضر ، وإن كان معلولا بعلّة المرض ،
وبالجملة ، يجب وجود سبب للقبلة ، كسفر أو مرض أو عارض ما يعرض للبنت لسنيّتها عند الفقهاء ،
وأمّا التقبيل في الفم ، فقد يكون بين الذكور والإناث ، محارم كانوا أم أجانب ، وفيه تفصيل ،
فقد ذهب المالكيّة لحرمة هذا في الجميع ، محارم كانوا أم لا ، عدا الأزواج ، وذهب بعضهم إلى جواز هذا في الجميع ، بشرط عدم إثارة الشهوة ، كما قال القرافي : ولا فرق بين الخدّ والفم إذا فقدت الشهوة ، قال كلاما قريبا من هذا ، وفي آخر بحثه رجع وقيّده بالقرابة بشرط فقد الشهوة،
وأغلب الفقهاء يحرّمون هذا في الجميع عدا الأزواج ، وكما قال أحمد : الفم موضع الشهوة فتحرم ، وهذا ما عليه الحنابلة من غير خلاف بينهم ،
ولشيخ الإسلام التقي السبكي كلام مهمّ في هذا الباب ، ملخّصه : يجوز تقبيل الولد والبنت في الفم والرقبة وغيرها من المناطق دون الفرجين ،لأنّ من طبيعة النفس الإنسانيّة أنّها لا تشتهي محارمها ، ولو كانت القبلة في الفم ، ولا يحرّم التقبيل من الفم لأجل القليل النادر ، وهو من كبار الشافعية ، ويقاس بالغزالي بل بالحسن البصري ،
ومجمل القول : إنّ هذا الأمر راجع للعادات أكثر من رجوعه للدين ، فالعرب يسألون الشيوخ عن جواز تقبيل فم الزوجة فكيف بغيرها ؟؟!!
وأهل أوربا يقبّلون أبناءهم من أفواههم ولا يجدون شهوة من هذا ، ولا يتصوّرنه أصلا ، وهذه من عاداتهم القديمة ، فيقرؤون في الإنجيل أنّ مومسا اختلت بالمسيح وقبّلت رجليه ، وملأت شعرها بالعطور الفاخرة وراحت تمسح وتدلك أقدام المسيح الأعزب الشاب ،
ثمّ يقرؤون إنكار أصحاب المسيح عليها ذلك الفعل ، فقد أسرفت في تبجيل المسيح ، وأسرفت في ثمن العطر ، أما كان الفقراء بأولى من أقدام المسيح بهذا العطر ؟؟!!
فيغضب المسيح ، ويوبّخهم أشدّ التوبيخ ، فالفقراء معكم دائما وأنا لست معكم دائما ؟؟!! وها هي ذي تعظّمني أكثر من تعظيمكم لي ؟؟!! وانظر إليها يا سمعان وتعلّم، كم مرّة دخلت بيتك ولم تطعمني ؟؟!! وكم مرّة رأيتني ولم تقبّل رجلي ؟؟!! ويشير لأصحابه لتلك المومس ولحبّها العجيب للمسيح بأن تعلّموا منها احترامي وتبجيلي ،
ويمرّ هذا النص بكلّ أريحية أمام أعين علماء وعوام أوربا ، فهم منغمسون في الشهوات والرذائل غمسا ، فأيّ إثم ارتكبته هذه المومس بحق المسيح ؟؟!!
وفي الحقيقة ، هذا الكلام كلّه لا يجري على أصول المسلمين أبدا ، فهذا البخاري رحمه الله يروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل بيت أمّ حرام أخت أم سليم وتفلّي له رأسه وينام عندها ، وفي بيتها حدثت الرؤيا الشهيرة ، .؟؟!!
وبدل أن يردّوا هذا الحديث ويسقطوه راحوا للتأويل ، فالجمهور على أنّها من محارمه في الرضاعة ، وردّ الدمياطي والسبكي الكبير هذا الرأي بما لا مزيد عليه ، واختار السبكي وشيخه الدمياطي أنّ هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم ، فيجوز له ما لا يجوز لغيره ، ؟؟!!
ولماذا لا يكون اختلاء المسيح بالمومس من خصائصه إذن ؟؟!! فعلام هذه الجلبة إذن على نصوص الإنجيل والتوراة أمثال هذه ؟؟!!
وأحسن ما قيل في تفسيره أنّ هذا الحديث تفرّد به بعض رواته ، والمشهور من هذا الحديث دون ذلك التفرّد أنّها ما كانت تلمسه صلّى الله عليه وسلّم ، ولا فلّت له شعره قط، وحاشاه من هذا ،
ولا يدخل عندها إلاّ بوجود زوجها عبادة رضي الله عنه ، ولو ثبتت رواية تفلية الشعر فإنّما هذا لعبادة لا لرسول الله ، وهذا يحل الإشكال كلّه ، وخصوصا أنّ البخاري إنّما بوّب له في باب الاستئذان على القوم ، ولا قوم لمن فهم الحديث بتلك الطريقة الغريبة ، ثمّ راح يلوم النصارى على عدم غيرتهم على المسيح ، ؟؟!!
وأمّا علماء النفس فيقولون : إنّ الانفعالات النفسيّة ، إذا لم تظهر على جوارحك وأفعالك فلا قيمة لها ، فأيّ فائدة لغضبك الداخلي إذا لم يظهر ويغيّر أسبابه ؟؟!!
وأيّ قيمة لحبّك الداخلي وأنت لم تقبّل ابنتك من رأسها وخدّها قط ؟؟!! فما الفرق بينك أيّها المحب المشفق على ابنتك وبين صاحب الأثرة بمشاعره وأحاسيسه إذن ؟؟!! لا فرق أبدا ، فهما عند ابنتك سيّان ، ؟؟!!
كحال المؤمن بقلبه دون جوارحه ؟؟! تراه شيخا يرتدي العمامة والجبّة ويتفاخر بأنّه خرّيج الشريعة ، ومعه أكثر من إجازة علميّة ، ولسانه أوسخ وأقذر من لسان ملحد زنديق ؟؟!! لا يرى لخصومه ولمن يحسدهم أدنى حرمة يراها ويشعر بها الملحد ، فما هو الفرق بينه وبين الملحد إذن ؟؟!! وهؤلاء صاروا الأغلب والأعمّ للأسف ،
أمّا المدرسة النفسيّة المنسيّة هذه الأيّام في جامعات الطب النفسي أقصد من ترى أنّ الروح هي أصل الانفعالات النفسيّة فتخالف ما سبق ذكره ، وترى أنّ الأرواح تشعر بحبّ بعضها وإن لم يظهر ذلك الحبّ على الجوارح ، وهذا صحيح ، فتشعر بحبّك لوالدك وقد يكون مجرما بحقّك ، وقد أكل من جلدك حزامه حتّى شبع ، ..؟؟!!
ومن يتابع أفعال رسولنا صلّى الله عليه وسلّم يجزم بأنّ الأمراض النفسيّة تنشأ بسبب الروح والجسد معا ، فلا معارضة بينهما ، فينبغي التعبير عن حبّك لمن حولك بلسانك وجوارحك معا، وإن كانت الروح تشعر بحبّ وببغض فلان لها دون ظهور آثاراها على الجوارح ،
فليس معقولا أن تضرب زوجتك وتهينها وتدخل على أبنائك دخول الغول على فريسته ثمّ تدّعي أنّك محبّ مشفق ،؟؟!!
وقد تكون محقا ، لكنّك بالنسبة للشرع والعرف ولزوجتك ولأبنائك أنت والغول سواء ، والله أعلم .