لا يوجد في هذه الدنيا خير مطلق أو شرّ مطلق ... فلكل شيء جانب جميل وجانب قبيح ... ومن سنن الله في هذا الكون أنّ التعصّب لشيء مهما كان يغيّر صفته الجميلة إلى صفته القبيحة ..
فمن الجيّد أن يكون هناك عالم خاصّ بك ... تصاحب فيه من تريد وتحظر فيه من تريد ... وتكتب فيه ما تشاء ... وهذا الفيس بوك من أحسن العلاجات السلوكيّة التي تساعد المرضى النفّسيّين ... والشباب الفاشل ... لكنّنا للأسف - كالعادة - حوّلناه إلى مرض وسوء وقبح ...
وأنصح كلّ مريض بالاكتئاب أو الوسوسة أو العُصاب أن تكون له صفحة فاعلة على هذا الفيس بوك ...وأن لا يهجره أبدا ... وأن لا يفتي كلّ واحد من عنده .. فقد قرأتُ لأحد الفقهاء يدعو الشباب إلى هجر الفيس ... وهو نفسه يكتب عليه يوميا ويناظر ويخاصم في هذا العالم الذي يذمّه ...!! فأقول له : أرجوك يا أخي أن تسكت ولا تتكلّم بشيء لا تفقه فيه شيئا ...!!
قبل فترة انتحر أحد زملائي ... وقد أخبرني من شاهد موته أنّه كتب على الحائط - عشت وحيدا وها أنا أموت اليوم وحيدا حزينا... وذكر أنّه أطلق الرصاص على رأسه ولم تكن الطلقة قاتلة وقعد نصف ساعة وهو يتألّم ويتلوّى حتى خرجت روحه ...
ذكر الدكتور النفسي الشهير أحمد عكاشة في كتابه الطبّ النفسي المعاصر أنّ أكثر حالات الأمراض النفسيّة التي قد تؤدّي إلى الانتحار كانت بسبب العزلة والوحدة ....
وهذا صحيح وواقعي ... فإذا أردتَ قتل المريض النفسي فاتركه يعاني لوحده ...وكلّما زادت عزلته زاد مرضه ... وتضاعفت أمراضه النفسيّة وتكاثرت ...
فبعض الآباء والأمّهات هداهم الله ... إذا ابتلاهم الله تعالى بولد عُصابي وحسّاس يحاولون رعايته وإصلاحه مدّة من الوقت وبعد سنتين أو ثلاث يُسلمون ولدهم المسكين المبتلى بما لا يد له فيه للشّيطان ...
ويتركون ولدهم المسكين يعاني تلك الأمراض لوحده ... ويتركونه منعزلا في البيت يعيش خيالاته وأوهامه ... ويُسلمونه للشيطان .. ويتمنّون موته... وقد ينتحر بعد فترة من هذه المعاناة ...
والأمراض النفسيّة يا إخواني الأفاضل الأماجد مثلها مثل أيّ مرض عضوي مزمن ... كالعمى والصمم والبكم والشلل... فهل هناك عائلة تخاف الله ترمي ولدها المشلول أو الأعمى في غرفة منعزلة ليعاني وحده ...؟؟
قفذا المسكين يحتاج إلى عناية خاصّة من الأهل والمجتمع ... والأهل يجعلون من هذه الأمراض تعييرا لها ولابنها ... ولو كان ولدهم عاجزا بسبب الشلّل أو العمى لما تركوه أبدا ... ولرعوه قربة إلى الله ... والعجيب أنّه لا يوجد فرق بين المشلول وبين المريض النفسي ... فكما أنّ الشلل مرض مزمن يحتاج المبتلى به إلى عناية خاصّة فكذلك المريض النفسي يحتاج إلى رعاية خاصّة ...فما الفرق بين المرضين...؟؟!!
وممّا أجمع عليه أطبّاء النفس أنّ معاناة المريض النفسي أشدّ من معاناة المصابين بالأمراض العضوية المزمنة بأضعاف مضاعفة ... ولكن الناس يجهلون هذا ... ويعتقدون أنّ الأعمى مريض يحتاج إلى رعاية ورحمة وشفقة ... والمريض النفسي مجرم بحق نفسه ويستحق ما يعانيه من ألم ومعاناة ...ولا يعلمون أنّ آلام الأمراض النفسيّة أكثر ألما وفتكا بمراحل من الأمراض العادية ... فالأعمى قد يتقبّل الحياة بعد مّدّة ويتزوّج وينجب ويستمتع بمباهج الحياة مع عجزه عن الرؤية ... ولن يقدر المريض النفسي على العيش بفرح وسعادة ولو لساعة واحدة ...؟؟ ولهذا نجد أنّ الله تعالى جعل هذه الأمراض عقوبة لكلّ من ترك وهجر ربّه ... وكفى بها عقوبة ...!!
المقصود ... المريض النفسي مبتلى من الله ... كحال الأعمى المبتلى من الله ... فمن المفارقة أن يدرّ الأعمى دموع الناس ويدر المريض النفسي غضب الناس وقسوتهم ...
عندي صديق سلفي لطيف الروح ... لكنّه نمّام كبير ... وأكره الجلوس معه ... فلقيني مرّة بعد صلاة الجمعة ورافقني إلى بيتي ... فكرهت أن أطرده أو أهينه فالرجل ضيفي ... فأخذته إلى المقبرة ... وأخبرته بأنّ هذا مسكنه ولو طال به العمر .. وأنّ عليه أن يتوب من النميمة بين الناس ...
فأخبرني أنّ صديقه قد انتحر قبل بضعة أيّام ... وأخذني إلى قبره وجلسنا عنده .. وكانت طينة قبره لا تزال طريّة ... فبكيت كثيرا عليه مع أنّي لا أعرفه ... لكنّه صغير جدّا على الموت ... وأثار رؤية قبره في نفسي حرقة وألما ... وقلت : لو كان عنده أهل مثقّفون وفاهمون ويرعونه جيّدا فهل سيقتل هذا الشاب المسكين نفسه ...؟؟
وأخبرني أنّ عمره 21 سنة ...!! فقلت : ما هي المصائب التي وقعت على رأس هذا الحزين حتّى قتل نفسه ...!!
فقال : أهله لم يكونوا يعرفون أنّه مريض نفسي ... فقد كانوا يتركونه لوحده في البيت يعاني الاكتئاب والوسواس... حتّى قتل نفسه قبل بضعة أيّام ...!! وقد أخبرني مرّات كثيرة أنّه يريد أن يقتل نفسه لأنّ أهله لا يهتمّون به... ويعاني من آلام كثيرة في صدره ورأسه ... ويخاف من الناس كلّهم ...!!
وسألني هل هو في النار ...؟؟
قلت : قتل النفس على قسمين :
1- قتل النفس بسبب الأمراض النفسيّة المزمنة بحيث يفقد الرجل اتّزانه العقلي والنفسي وتذهب حقيقة إرادته وأهليّته فهذا معذور ولا يعتبر قاتلا لنفسه لأنّه فاقد لعقله ولإرادته ... فحاله كحال المجنون تماما ...
2- من يقتل نفسه وهو مريد مختار ولو كان مريضا نفسيّا ... فإن كان واعيا لما يفعله وعارفا بحرمة هذا الفعل ومتّزنا فهذا هو المقصود بالحديث وليس الأوّل ... والناس لا يفرّقون بين هذين النوعين من قتل النفس ... فكلّ من يقتل نفسه فهو في النار وهذا وهم وغلط ...
فما دخل هذا الكلام كلّه في قصّة الفيس بوك ..؟؟
ببساطة الفيس بوك يوفّر للمريض النفسي عالما حيّا ... يُخرجه من عالمه الحقيقي المقيت ... ويوفّر له عائلة إلكترونية تعوّضه عن عائلته الحقيقيّة السيّئة ... فهو ضروري جدّا من هذه الناحية ... وخصوصا بأنّ هناك أدوات في هذا العالم الافتراضي تجعله سيّد هذا العالم ... فيحظر ويمنع الرسائل ويحذف الصداقات كما يشاء وغير هذا من أدوات تعطيه ثقة بنفسه ... وتجعله قادرا على التعبير عن انفعالات النفسيّة من عير خوف أو رهبة ...
والمريض النفسي إذا لم يفرّغ طاقاته الغضبية المكبوتة فستولد عنده أمراض نفسية أخرى بسبب تلك الانفعالات المكبوتة ...ومشكلة المرض النفسي أنّه ينشئ أمراضا أخرى كلّما طال الزمن ... ولم يسارع إلى علاجه دوائيّا وسلوكيّا ...فلا ينبغي السكوت عن الاكتئاب البسيط فقد يتطوّر ليصير عنده مجموعة كبيرة من الأمراض المتلاحقة ...
فلا أنصح أحدا بترك هذا الفيس بوك ... فهو جيّد جدّا من الناحية النفسيّة .. وخصوصا للمكتئبين ...
بقي علينا ... أنّ هذا الفيس بوك يضيّع الوقت على المفسبك ... وهو صحيح .. وهذا سوء استعمال فقط ... ومن منّا كان يشغل وقته بالخير والنماء قبل اختراع هذا الفيس ...؟؟
أغلب الناس تضيع أوقاتهم من غير منفعة ... كمشاهدة التلفاز والنوم واستغابة الناس وغير هذا من أسباب تضييع الأوقات ...
فأنا لا أعترف بشيء اسمه ( مرض الإدمان على الفيس بوك ) فهذا اسم خاطئ .. ولا حقيقة له ... وقد تعجّل الأطبّاء بإطلاق هذا المرض ...
وذلك لأنّ المريض النفسي تظهر أفعاله على الفيس بوك وليس العكس أي أنّ الفيس بوك كاشف للأمراض وليس مسبّبا لها .. كحال من يسرق فيفصل من عمله ... ففصله من عمله كان بأمر المحكمة وليس بسبب إدارة العمل لأنّه لا سلطة لها على الفصل بسبب الجنايات والجنح أصلا لكنّها كاشفة عن حكم المحكمة القاضي بالفصل ...وهذا حال الفيس بوك مع المريض النفسي ا...
مثلا : المكتئب واليائس يضيع وقته كلّه على الجلوس على الفيس بوك لأنّه يريحه من التفكير في همومه وفشله ... فالفيس بوك طاقة يُنفذ فيها المريض همومه وآلامه ...فكلّ مدمن عليه هو مريض نفسي ... ليس بسبب الفيس بوك وإنّما هو مريض نفسي أصلا من بيت أهله ... والفيس بوك كشف عن مرضه بتلك الأمراض التي لم يكن يعرفها...فليفهم هذا جيّدا ...
وإحصائيات الأمم المتحدّة تقول : إنّ 70% من سكّان العالم العربي مصابون بالاكتئاب الحاد... وقد قرأت إحصائية لطبيب يهودي يقول : إنّ أكثر من 90% من اليهود مصابون بالاكتئاب الحاد... وهذا نتيجة الوضع النفسي غير المستقر لليهود بسبب إحاطة العرب بهم من كلّ جهة ... وشعورهم بعدم الأمان الدائم ...
فأغلب سكّان الشرق العربي مصابون بالاكتئاب ولهذا يا أيّها السّائل لا علاقة للفيس بوك بإدمانك عليه حتّى تتركه وتهجره ولن تقدر على هجره أصلا لأنّه ببساطة يريحك من ألم الاكتئاب بل أنت يا حبيبي المريض النفسي الذي يحتاج إلى علاج ...ولا علاقة للفيس بوك بالقصّة ...
كان جان جاك روسّو متعلقا بفتاة تُدعى المدام دي فاران ... لدرجة أنّه كان يقعد عند قدميها ويبكي من شدّة حبّه لها ... ولم يكن يناديها بغير ( ماما ) فهي أحب إليه من أمّه وأهله وأخيه والناس أجمعين...
فقد ذكر أنّه نسي أخاه تماما... ولم يشعر بوجود والده يوما عند استقراره في بيت مدام دي فاران ... و لم يكن يتصوّر أن يعيش يوما واحدا من دون رؤية مدام دي فاران ...
وقد ذكر أنّه أحبّ فتاة أخرى في باريس ... وكانت أجمل من مدام فاران .. ولكنّه لم يكن يقدر على الاستمتاع بها بسبب وقوع صورة مدام فاران على صورة تلك الفتاة في ذهنه رغما عنه ...فكلّ النساء مدام دي فاران ...!!
يقول عبّاس العقاد : وليس الحبّ من يرى كلّ النساء فتاة واحدة ... ولكن من يرى فتيات كثر ويختار فتاة واحدة ...!!
يوضّح هذا المعنى اللطيف زكي مبارك يقول ما مختصره :
الحب أن تكون قادرا على رؤية النساء بعين واحدة ... وليس أن ترى بعيون كثيرة فتاة واحدة ... فهذا ليس حبّا... بل هو أقرب إلى المرض النفسي منه إلى الحب ... لأنّ الحب أن تختار فتاة واحدة من بين كثيرات لصفة تميّزها عن غيرها ... فإن لم تكن ترى غيرها فكيف يكون حبّا ...!!
إذن هو حبّ جنوني ...
يقول ول ديورانت : وهذا ليس حبّا بل لا يعدو أن يكون مرضا نفسيا ... لأنّ روسّو قد فقد أمّه أثناء ولادته ولم يرها قط ... وأبوه كان قاسيا شديدا فقد طرد من جنيف بسبب ضربه لأحد ضبّاط الشرطة كما ذكر هذا روسّو بنفسه ... وقد رعته مدام دي فاران ... وعوّضته عن حنان أمّه وأهله ...
ولهذا كان يتخبّطُ بين الحب الطاهر والعيش النظيف وبين الحب والعشق الجنسي والعيش القذر... فمدام دي فاران وعاء يفرّغ فيه روسّو أمراضه النفسيّة وحرمانه الأمومي ... بحجّة الحب ... فالدافع للحب عنده هو الجوع إلى يد حنان تملّس شعره ...وليس فتاة تملأ قلب عاشق هائم ...!!
وكثيرون جدّا .. الذين يتعلّقون بالفتيات بسبب هذا الجانب النفسي ويعتقدونه حبّا... وبعض الفتيات يعشقن بعض الشباب بسبب الجوع النفسي إلى يد حانية ... إذ لم يجدن هذه اليد في البيت فيبحثن عنها خارج البيت..!!
وهذا تماما حال من يدمن الفيس بوك ..فليفهم هذا جيّدا ...ولم أحقّق موضوع السؤال لكنّي أعتقد أنّني قد ألقيت الضوء على جانب مهمّ يجهله أغلب الناس... فالفيس بوك لا علاقة له بإدمانك عليه يا حبيبي ... فإن لم تدمن عليه أدمنت على غيره لأنّه ببساطة أنت مريض نفسي تحتاج إلى علاج ... والله أعلم .