جلستُ صبيحة هذا اليوم في متنزه قريب من بيتنا ، وكانت أمامي امرأة قد جلبت طفليها للعب في المتنزّه ، وكان أحدهما يشرب الحليب ، والآخر يرقص باحتراف على أغنية رقّصني يله ، لم تكن هناك أغنية على الحقيقة ، لكنّها موجودة في عقله ،ويتحرّك على نغماتها ، كأنّها حاضرة يستمع إليها ، ويحثّ أخاه الأصغر على تقليده ،
وحيث أنّني أشرب الحليب كلّ يوم لأكبر سريعا ، فلم لا أسقي زرعي من هذا الحليب ، ؟؟!! فأحضرت طاسا كبيرا ، وملأته بالماء ، وأفرغت فيه كيسا كبيرا من أجود أنواع الحليب ، وغليته على الغاز ، فقد خفت أن يمرض زرعي إن لم أغل الحليب ، ؟؟!!
وسقيته زرعي ، وتساءل إخوتي عن كيس الحليب ؟؟!! أين ذهب ، ؟؟!! ولم يدر في خلدهم أنّ حليبهم قد صار عشاء لزرعي في الحديقة ، ..!!
لم يكن يبعد هذا المتنزّه سوى أمتار قليلة عن بيتي ، فقد جلستُ فيه قبل عشرين سنة ، في العاشرة من عمري ، أمسك كتكوتا أسود بيدي ، ابتعته بدينارين ، لا يشبه الكتاكيت ، فلم نسمع بكتكوت أسود الريش والقدمين والعينين ، وقعدتُ في هذا المتنزّه أفكّر في اسم يليق بلونه ، فتذكّرت مسلسل جبنة مالحة، ليس مسلسلا شهيرا ، تابعته في التسعينات ، شاب طيّب القلب اسمه مسعود يعتقد أنّ قلوب الناس كمثل قلبه ، فينصب عليه أخوه ،ويجرّده من أمواله كلّها ، ويرميه في الطريق ،
ولم يكن أكبر همّي حين جلوسي في الحديقة ممسكا كتكوتي غير حماية زرعي في حديقة المنزل من اعتداء المعتدين ، فلكلّ واحد من إخوتي قطعة أرض يملكها في حديقة المنزل ، وأكبر إهانة يمكن توجيهها لأحدنا أن يدوس أحدنا على أرض غيره دون إذنه ، فكم دست على أراضي إخوتي فجرا وهم نائمون ؟؟!!
فقد كنت أمتلك ما لا يمكله إخوتي من أدوات القوّة ،وأسباب النصر ، أقواها الزمن ، فأصحو باكرا قبيل الفجر ، مذ وعيت على هذه الدنيا ، فما بين الفجر إلى وقت الظهيرة ملكي ، أفعل فيه ما أشاء ، لا يراقبني فيد أحد ،
فالبيت ملك لي وحدي في ما بين هذين الوقتين ، لا يشاركني فيه أحد ، وأجمل أيّام حياتي وأحلاها ما أنفقته بين هذين الوقتين ،وفي مقابل هذا الوقت العزيز وقت ضائع ، فكم نمت بعد صلاة المغرب دون أن أصلّي العشاء ، وكم جمعت بين الصلاتين جمع تقديم ، فلا أدري ما يجري بعد المغرب إلى وقت صلاة الفجر ، ؟؟!! فقد تحدث أمور عظيمة ولا أدري بها ،
وما كنتُ أعرف أنّ هذا الكتكوت الذي سمّيته - مسعود- ستكون له حكايات في حياتي ، فقد صار جزءا من البيت ، لقد صار عندنا فرد آخر اسمه مسعود ، يأكل ويشرب ويعيش معنا ، ما بقي إلاّ أن نضيف اسمه لدفتر العائلة ، أو أن يكتب الناس اسمه على بطاقة الدعوة حين ندعى لأعراسهم وأفراحهم،
ولا تدوم نعمة على أحد في هذه الدنيا الملعونة ، فقد فوجئتُ بديك قوي شرس يعيث فسادا في حديقة بيتي ، إنّه ديك أخي ، قوي شديد ، لا يقدر عليه عشرة من مثل مسعود ،
لم يكن يدخل مسعود إلى القن حتّى ينام ذلك الغازي، ديك تافه متعجرف ، يعتقد أنّه لا يوجد ديك غيره في هذه الدنيا ، كم أغاظني الملعون بمشيته تلك ، يمشي الكبرياء رافعا ذيله كأنّه ديك حبش ،
لقد أمسكته مرّة وكسّرت عظامه ونتّفت ريشه واحدة تتلوها أختها حتّى جعلته زلطا ملطا ، لم أملك أعصابي حين رأيت مسعودا وقد انتفخ وجهه وصار أزلط من غير ريش بسبب ذلك الديك الملعون ، لعنه الله ما أقسى قلبه ، وما أعطل مزاجه ،
وبحركة مسعوديّة قد أسعدت قلبي ، ولم أصدّق عيني وقتها ،رأيتُ مسعودا يضرب ذلك الغازي في صبيحة أحد أيّام سعدي وهنائي ، رأيتُ الغازي الجبّار يرتجف خوفا من مسعود ، شعرت كأنّي محمّد الفاتح أو أبو عامر المنصور ، ورجعتُ للبيت وكلّي فخر بديكي ، مسعود أخيرا ، ظهرت فحولته ورجولته ،
لم نكن نعرف أنا ومسعود أنّ ذلك الديك الملعون مريض ، ومرضه تسبب بسيطرة مسعود على حديقة البيت ، ولم نكن على علم بأنّها مسألة وقت حتّى ترجع الحال كما كانت ، وقد رجعت ،
لم يكن يعرف مسعود بأنّه سيتزوج من فتاة جميلة تملك بيتا وسيّارة وشركة ، وفي ليلة الدخلة لم يسألها عن شيء ، خجلا وحياء ، وتمضي الليلة بكلّ سرور وهناء ،
وفي الصباح تأتيه زوجته الثريّة بإفطار شهي ، لم ير مثله طوال سني عمره السالفة، وبعد شربه للشاي ، بدأ يحدّث زوجته بطموحاته ومشاريعه ، وماذا يريد لأبنائه ، وزوجته لا تردّ عليه بكلمة ، لم يكن يعرف أنّها خرساء وطرشاء ولا تنجب الأبناء ،
ففوجئ مسعود بأنّه قد خدع ، لم تكن أوّل مرّة ، وليست آخر مرّة ، فضحك وقال :خرساء أحسن ، لا تزعجني بقالت وقلت ، وقد عوّضني الله بمالها وبيتها وسيّارتها وشركتها ، فهذه بتلك ،
لم يكن يدري أنّها لا تملك شيئا أصلا ، والبيت الذي يسكنه مستأجر سياحي لستة أشهر ، والسيّارة مستأجرة لآخر الشهر ، ولا توجد شركة أصلا ، فقد نصب عليه أخوها لإخراجها من بيته ، فقد كانت تلحّ عليه زوجته القويّة الثريّة بإخراجها من بيته ، وما وجد غير الحيلة لتزويجها ، فمن سيتزوّج من فتاة فقيرة لا تسمع ولا تنطق ،
كم تساءلت عن مصدر قوّة ذلك الغازي ..؟؟!!
واهتديت لمصدر قوّته ، منقاره اللعين ، فلأ قطعنّه وليكن ما يكون ، فما هي غير ساعتين حتّى طلعت الشمس ، وقبل خروج الغاشم الملعون من القّنّ ، أحضرت مقصّا وأمسكت بالغازي وقصصت له منقاره لا بارك الله به ،
وصار الديك بنصف وجه ، يشبه وجه الخنزير أو هو أقبح ، وفوجئ أخي بوجه ديكه الصبوح المنير كوجه الكلب الجعيري..!! لا يظهر من فمه غير لسانه ..!!! عينان وحاجبان وفتحتان للأنف ولسان يدخل ويخرج ولا شيء غير هذا في وجهه ،!! وصار الديك يمشي مشيته المعتادة التي ترفع الضغط ، لكنّه يشعر بأنّ هناك أمرا ما في وجهه،
وهام مسعود على وجهه في الطرقات ، يشعر بأن لا مكان لمثله في دنيا الوحوش هذه ، ماذا يفعل .؟؟ وقد ذهب ماله وبيته وقد تزوّج من فتاة طرشاء خرساء ، ولا تملك شيئا من هذه الدنيا فوق عاهاتها تلك ، ؟؟!!
لم أكن أعرف حين تذكّري لقصّة مسعود أنّ المرأة قد تركت ولديها وذهبت لبعض شؤونها ، تركتهما في متنزّه مليء بالسيّارات وبألوان كثيرة من الناس ، منهم المحترم ومنهم ابن الحرام ،
وبرغم وجه الغازي المبتور ، فقد بقي مسيطرا على حديقة البيت ، وبقي مسعود لا يقدر على الدخول إلى القن قبل حلول الليل ، لم يتغيّر شيء ، فبرغم استئصالي لقوّة الغاشم لكن الديك مسعود بقي يخاف ويرتعد خوفا من الوقوف أمام الغازي ،
فعرفت حينها أنّني قد خسرتُ معركتي مع الغازي ، وقبل أن أضع رأسي على فراشي معلنا استسلامي للغازي ، قلت في نفسي: خسرت المعركة وغطّيني يا فاطمة ،
وقد أخذني هدوء المتنزّه وقت رؤيتي لعجوز متصوّفة في حارتنا ، حين أخذتني الصدمة ، لم يخبرني ابن أخيها عن سبب طلبها حضوري ، لم أتجاوز السابعة من عمري وقت رؤيتي لها لأوّل مرّة ، لم تكن تعيش في بيتها الضخم ، فقد تركته لأقربائها الفقراء ، وبنت غرفة صغيرة ، لا تحتوي على غير سرير وسبحة وزجاجة ماء ، ..!!
أخبرتني بأمور ستحدث لي ، وأعطتني أمانة لا أفتحها قبل يوم الجمعة ، ولم يأت يوم الجمعة حتّى صلّينا عليها في مسجد حيّينا الكبير ، وهرعت للبيت لأفتح الأمانة ، ولأعرف ماذا كانت ، ؟؟!!
بحثت عن الطفل الذي يغنّي رقصني يله ، فقد غبت عنه بخيالي وذكرياتي ، ظننته قد رجع مع أمّه لبيته ، لم أكن أعرف أنّه متشعلق بعمود الكهرباء ، يحاول الوصول لأسلاك ضغط الكهرباء العالي ،
وقد انتهيت من شرب قهوتي الصباحيّة في المتنزّه ، وقطعتُ مسلسل ذكرياتي ، وتركت الولدين يرقصان في وسط الطريق بين الحافلات والغرباء ، رقّصني يله ،
أعتقد أنّ الرسالة واضحة و أن في الحياة لا بد أن تعيش الثمانية : سُرُورٌ وَحُزنٌ وَاجتِمَاعٌ وَفُرقَةٌ وَ يُسرٌ وَعُسرٌ ثُمَّ سُقمٌ وَعَافِيَه.