في رواية شهيرة لأوريل يكتشف الأولاد الذين يشعرون بحنق عظيم على والدهم من سوء معاملته لهم ، أنّ هذا الرجل المتسلّط عليهم ليس والدهم، فيفترض الكاتب أنّه لا يوجد مبرّر مادّي لبقاء رابط الأبوّة بين أفراد هذه الأسرة .
غير أنّ الكاتب يفاجئنا ببقاء هذه الرابطة الأسريّة ، برغم العلم الضروري الحاصل للأولاد أنّ هذا الرجل المتسلّط ليس والدهم .
ويفسّر الكاتب هذا الأمر الغريب بأنّ الروابط الجينية لا تقتصر على المواد الجامدة ، بل تتعداها لتصل إلى التأثير على العلاقات النفسيّة والروابط الروحية ، فقد يكون الرابط بينك وبين أحدهم جينيا لكنه مختلف عنك نفسيا وروحيّا ، وقد لا يكون هناك رباط بينك وبين شخص بعيد عنك جينيا لكنّه قريب الشبه بك في نفسه وأفكاره .
فالروابط الجينية لا تكفل لك المشابهة في الصفات ، فقد يتشابه الجين بينكما ويختلف العمل ، فلا يعمل الجين عين عمله في جسد جدّك أو ابيك أو زيد من الناس ، وهذا راجع كما يقول علماء البيلوجيا إلى أنّ شروط عمل الجين متوقّف على الروتين .
فالروتين هو مجرّد عمل ثانوي للجين ، لكنّه مهمّ جدّا في تحديد مدى هذه الفعالية ،فنجد مثلا أنّ مقاومة الأمراض والحرارة عند دبّ العث يمكن زراعته في البقر ، لكنّه لن يعمل بسبب الروتين .
فشروط عمل الجينات قد تكون غير متوفّرة في بعض الحيوانات ، برغم التشابه الكبير بينها في جميع أشكال الحياة، لكن هذا الروتين يُعتبر حدّا فاصلا في عملها .
يقول علماء التطوّر : إنّ تشابه الجينات لا يلزم منه عين الأثر ، إلاّ إذا توافرت نفس الظروف في جميع الأجساد ، فمجرّد تأثير بسيط من بعض أنزيمات الجسد قد توقف فعالية كثير من الجينات التي تربطك بأصلك .
فإذا كنت من نسل النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ولم تظهر فيك بعض صفات النسب الشريف العالي ، فاعلم أنّ بعض هذه الجينات قد توقّفت عن التأثير .
وقد أعجبني جدّا تحليل عبّاس العقّاد في كتابيه ساعات بين الكتب وكتاب رأس الحسين عليه السّلام ، لمسألة الصفات الموروثة ،وملخّص ما ذكره :
أنّ الخبير بالتاريخ وأحوال النسب وصفات الرجال ، يعلم يقينا أنّ صفات النبوّة قد تظهر في بعض الأحيان فجأة بعد قرن أو قرون ، في شخص رجل من نسل العلويّين ، وقد لا تظهر هذه الصفات قطعا في كثير منهم ، وهذا كلّه بفعل طبيعة عمل المورّثات نفسها ، فقد تتوافر شروط عملها فتعمل أو لا تتوفّر هذه الشروط فتتوقّف عن العمل وقد تبقى ساكنة لقرون .
يقول الملحد الشهير ريتشارد دوكنز في قسّيس الشيطان كلاما كثيرا عن عمل الجينات ملخّصه :
إنّ عمل الجينات متوقّف على شروط كثيرة ، وبعضها قد ظنناه لا شأن له بعملها ، كالرّوتين ، وهذه قد صدمتني فعلا ، إذ قد يتوقّف عمل الشركة التي لها ملايين الموظّفين بمجرّد تغيير الروتين اليومي للعمل .
قلت : هو يقصد ، أنّ الشركة التي فيها ملايين الموظّفين ، سيتغيّر عملهم وجودته بتغيير روتينهم اليومي ، مثل تغيير التوقيت الصيفي إلى شتوي مثلا ، ففي بداية التوقيت الجديد سيتأثّر عملهم بفعل هذا الروتين الذي يتكرّر كلّ سنة .
المقصود :
لا تلهث وراء معرفة أصلك ، وفصلك ،في مختبرات الجينات ، كما يفعل كثير من سكّان الجزيرة والشام ، لأنّ عمل الجينات الأصلية متوقّف على شروط كثيرة ، من أهمّها : عدم اختلاط تلك الجينات بجينات غريبة عن الأصل ، فكيف الحال وجينات الدنيا كلّها قد دخلت في بعضها ..!!
لا يأتيني واحد ويقول : بلال التل ينفي الأصول والمنابت : هناك فرق بين أن أنفي أصلك وبين أن أنفي حقيقة تأثير تلك الجينات في جسدك وأخلاقك وصفاتك المورثة .